سوريا بعد الأسد- تحديات الاستقرار، أسئلة الغرب، وطموحات الشعب

المؤلف: محمد مفتي10.23.2025
سوريا بعد الأسد- تحديات الاستقرار، أسئلة الغرب، وطموحات الشعب

بعد الانتصار الساحق الذي حققته قوى المعارضة السورية، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، على نظام الأسد وسقوط نظام البعث، تملّك القلق العميق العديد من الدول الغربية حيال مستقبل المنطقة بأسرها. هذا القلق المتزايد يعود إلى ارتباط أسماء قيادات هذه الفصائل بجماعات إرهابية كداعش والقاعدة. ولا شك أن أكثر ما يثير جزع المجتمعين الإقليمي والدولي هو احتمال تحول دولة في الشرق الأوسط إلى بؤرة متطرفة شبيهة بأفغانستان. ورغم أن الأحداث التي ألمّت بسوريا مؤخرًا هي شأن داخلي صرف، إلا أن وجود بؤر متطرفة في قلب منطقة الشرق الأوسط يهدد - ليس فقط دول المنطقة - بل يهدد المصالح الغربية الحيوية أيضًا.

وفي سياق إجراء مقارنة دقيقة بين سوريا وأفغانستان، يتجلى بوضوح تام أن سوريا تختلف جذريًا عن أفغانستان. ولعلّ جوارها لإسرائيل يعزز من وضعها الاستثنائي على الصعيد الدولي، حيث لن تسمح إسرائيل - وبدعم كامل من حليفتها الوثيقة الولايات المتحدة - بوجود بؤر طالبانية على حدودها، خشية تهديد أمنها واستقرارها. هذا الأمر بالذات هو ما دفع بالقضية السورية لتتصدر باستمرار عناوين الأخبار العالمية. وفي الأيام القليلة الماضية، كنت أتابع باهتمام بالغ بعض اللقاءات الصحفية التي أُجريت مع رئيس هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع، وقد لفت انتباهي الكم الهائل من الأسئلة الاستفزازية - إن جاز التعبير - التي وجهت إليه من قبل وسائل الإعلام الغربية.

فبدلًا من أن يركز الصحفيون الغربيون على القضايا المحورية والأساسية التي تتعلق بمستقبل الدولة السورية، مثل طبيعة علاقة سوريا مستقبلًا بالعرب وإسرائيل والحلفاء السابقين مثل إيران وروسيا، لاحظت بأسف أنهم يوجهون أسئلة تهدف بشكل سافر إلى إثارة الفتنة والبلبلة في الشارع السوري، مثل قضايا السماح بتداول الخمور وارتداء المرأة للحجاب، وما إذا كان من الممكن أن تصبح سوريا نموذجًا آخر لنظام طالبان المتشدد في المنطقة. ومن الواضح تمامًا أن هذه الأسئلة كانت بمثابة الفخاخ المنصوبة التي يهدف الصحفيون من خلالها إلى تأجيج نار الاحتقان في الشارع السوري وربما العربي أيضًا.

في تقديري الشخصي، توجد اختلافات جوهرية وشاسعة بين حركة طالبان وبين الإدارة الجديدة في سوريا. فطالبان هي حركة قبلية بارعة في التلون والتكيف مع كل مرحلة ومتغيرة. فقبل الغزو الأمريكي قبل عقدين من الزمن، كانت تعتمد اعتمادًا كليًا على تصدير المخدرات كمورد أساسي لتمويل أنشطة حركتها. وبعد رحيل القوات الأمريكية في عام 2021، أصر قادة الحركة بإصرار شديد على وقف تعليم النساء ومنعهن من العمل. أما هيئة تحرير الشام، فخلال فترة حكمها لإدلب - على مدى سنوات عديدة - لم تعترض إطلاقًا على تعليم النساء أو توظيفهن. بل إن جامعة إدلب، التي تأسست في عام 2015، كانت تعمل بكامل طاقتها لاستيعاب وتعليم الجنسين على حد سواء. وقد تابعت كغيري باهتمام بالغ احتفالات الشعب السوري العارمة، نساءً ورجالاً، عقب سقوط النظام في جميع قرى ومدن سوريا التي كانت تخضع لسيطرة هيئة تحرير الشام، ولم تتدخل أي جهة لمنع أي طرف من الاحتفال، على عكس حركة طالبان التي ما إنْ عادت إلى السلطة حتى استأنفت أساليب القمع والإرهاب.

لم تشهد حكومة هيئة تحرير الشام في إدلب وجود شرطة دينية متطرفة تتعقب النساء وتسيء إليهن لفظيًا وجسديًا، كما يحدث في أفغانستان. ومن هنا، بدت لي أسئلة بعض الصحفيين الغربيين كما لو أنهم يلمحون إلى أن نظام بشار الأسد، الذي حوّل سوريا إلى قبر واسع بحجم الوطن، هو نظام ديمقراطي لا لشيء إلا لأنه سمح ببيع الخمور على نطاق واسع، وأن نظام الأسد، الذي شرّد الملايين من السوريين، يعد نموذجًا يحتذى به لأنه سمح بتبرج المرأة وعدم ارتدائها الحجاب. ولعل أفضل ما كشف عنه هذا الحوار هو تمتع أحمد الشرع بفطنة وذكاء حاد مكّنته من الرد ببراعة فائقة على أسئلة الصحفيين، كاشفًا عن نواياهم الدفينة المشبوهة، ومؤكدًا أن هذا النوع من القضايا الاجتماعية يخضع لحكم الدستور الذي ستشارك في صياغته كافة أطياف المجتمع السوري، وأن رئيس الدولة ليس عليه سوى الالتزام بالدستور وإنفاذ القانون.

بدا لي وكأن الغرب يسعى جاهدًا لإثارة الذعر والخوف - ليس في سوريا فحسب - بل داخل الدول المجاورة لها التي عانت الأمرين من نظام الأسد وحلفائه أيضًا. ومن المؤسف حقًا أن يلقي بعض العملاء الغربيين (ومن بينهم إعلاميون) بذور الفتنة والشقاق التي تنخر بضراوة في نسيج بعض الدول العربية. ومن المؤكد أن كلًا من الأنظمة والشعوب العربية الإقليمية تتوق إلى استقرار سوريا وأن يكون حكمها بيد السوريين أنفسهم لا بيد دول إقليمية أخرى. أما الكيفية التي تدار بها سوريا داخليًا، فهذا شأن يخص السوريين وحدهم وليس من حق أي جهة خارجية أن تتدخل فيه، "شريطة" ألا ينتشر فيها التطرف، وألا تصبح البوابة التي تنطلق منها ميليشيات متطرفة تسعى جاهدة للتغلغل في الدول المجاورة.

يردد الكثيرون أن الوضع في سوريا حتى الآن لا يزال مضطربًا وغير مستقر، وأن الإدارة الحالية لم تقدم الجديد المأمول. غير أن هذا الأمر يبدو منطقيًا للغاية؛ فتغيير نظام البعث، الذي استمر في الحكم لأكثر من خمسة عقود، وترسخ خلالها في جميع شرايين ومؤسسات الدولة، واقتحم حياة كل مواطن، لا يمكن لأي إدارة جديدة أن تحققه بين عشية وضحاها. فالقضايا والتحديات الهائلة التي تنتظر النظام الجديد عديدة ومتنوعة، ولعل أهمها عودة جميع السوريين إلى ديارهم، حتى يتم التوافق على صياغة دستور جديد يضمن الحفاظ على حقوق كافة أطياف الشعب السوري. ونتمنى خالصين أن تفي الإدارة الجديدة في سوريا بوعودها المعلنة حتى لا تفقد الدعم المتزايد من الدول المتعاطفة معها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة